فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة الرعد:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} [1].
قال أبو السعود: {المر} اسم للسورة، ومحله: إما الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: هذه السورة مسماة بهذا الاسم، وهو أظهر من الرفع على الابتداء؛ إذ لم يسبق العلم بالتسمية. وقوله تعالى: {تِلْكَ} على الوجه الأول: مبتدأ مستقل، وعلى الوجه الثاني: مبتدأ ثان، أو بدل من الأول أشير به إليه إيذاناً بفخامته، وإما النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو: اقرأ أو اذكر، فـ: {تلك} مبتدأ كما إذا جعل: {المر} مسروداً على نمط التعديد، والخبر على التقادير، قوله تعالى: {آيَاتُ الْكِتَابِ} أي: الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف به، المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، فهو عبارة عن جميع القرآن، أو عن الجميع المنزل حينئذ. وقوله تعالى: {وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي: من الكتاب المذكور بكماله: {الْحَقُّ} أي: الثابت المطابق للواقع في كل ما نطق به، الحقيق بأن يخص به الحقية لعراقته فيها، وقصور غيره عن مرتبة الكمال فيها. وفي التعبير عنه بالموصول، وإسناد الإنزال إليه بصيغة المبني للمفعول، والتعرض لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره عليه السلام، من الدلالة على فخامة المنزل التابعة لشأن جلالة المنزل وتشريف المنزل إليه، والإيماء إلى وجه الخبر، ما لا يخفى....! انتهى ملخصاً بزيادة.
لطيفة:
في: {الَّذِيَ أُنزِلَ} وجهان: أحدهما هو في موضع رفع، و{الْحَقُّ} خبره، أو الخبر: {منْ رَبِّكَ} و{الْحَقُّ} خبر محذوف، أو خبر بعد خبر. وثانيهما: محله الجر بالعطف على: {الْكِتَابِ} عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى، أو بتقدير زيادة الواو في الصفة، و{الْحَقُّ} خبر محذوف، ومنع كثير من النحاة زيادة الواو في الصفات. وآخرون على جوازها لتأكيد اللصوق، أي: الجمع والاتصال؛ لأنها كما تجمع المعطوف بالمعطوف عليه، كذلك تجمع الموصوف بالصفة، وتفيد أن اتصافه به أمر ثابت، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: بذلك الحق لرفضهم التدبر فيه شقاقاً وعناداً. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [2].
يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بقدرته رفع السماوات، أي: خلقهن مرتفعات عن الأرض ارتفاعاً لا ينال ولا يدرك مداه. وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي: أساطين، جمع عماد أو عمود. وقوله تعالى: {تَرَوْنَهَا} إما استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك، كقول الشاعر:
أنا بلا سيف ولا رمح تراني

أو صفة لـ: {عمد} جيء بها إبهاماً؛ لأن لها عمداً غير مرئية، وإليه ذهب كثير من السلف، ورجح ابن كثير الأول، وأنها لا عمد لها، قال: وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِه} [الحج: من الآية 65]، والأكمل أيضاً في القدرة. وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم تفسيره في سورة الأعراف، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي: ذللهما لما أراد منهما من نفع العالم السفلي. وقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: لغاية معينة ينقطع دونها سيره، وهو قيام الساعة، كقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: من الآية 38]، وقد بين ذلك في قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] و{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2] والاقتصار على الشمس والقمر؛ لأنهما أظهر الكواكب وأعظم من غيرهما، فتسخير غيرهما يكون بطريق الأولى. وقد جاء التصريح بتسخيرهما مع غيرهما في قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر} [الأعراف: من الآية 54] وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي: أمر العالم العلوي والسفلي ويصرفه ويقضيه بمشيئته وحكمته على أكمل الأحوال، لا يشغله شأن عن شأن. وقوله تعالى: {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} يعني: الآيات الدالة على وحدته وقدرته ونعوته الجليلة. أي: يبينها في كتبه المنزلة. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي: لعلكم توقنون وتصدقون بأن هذا المدبر والمفصل، لابد لكم من المصير إليه، بالبعث بعد الموت للجزاء، فإن من تدبر حق التدبر، أيقن أن من قدر على إبداع ما ذكر من الآيات العلوية، قدر على الإعادة والجزاء!.
لطائف:
الأولى: جُوَّزَ في قوله تعالى: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} أن يكون الموصول خبراً، وأن يكون صفة، والخبر: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ورجح في الكشف الأول، بأن قوله الآتي: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [الرعد: من الآية 3]، عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات، وفي المقابل الخبرية متعينة، فكذا هذا ليتوافقا. والجملة مقررة لقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: من الآية 1]، وعدل عن ضمير الرب إلى الجلالة لترشيح التقرير. كأنه قيل: كيف لا يكون المنزل ممن هذه أفعاله هو الحق؟ وتعريف الطرفين لإفادة أنه لا مشارك له فيها؛ لاسيما وقد جعل صلة للموصول، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفاً مفيداً لتحقيق كونه مدبراً مفصلاً، مع التعظيم لشأنهما. والمقصود بالإفادة قوله: {لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} فالمعنى: أنه فعلها كلها لذلك.
الثانية: قال القاضي: قوله تعالى: {رَفَعَ السَّمَاواتِ} إلخ دليل على وجود الصانع الحكيم، فإن ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية، واختصاصها بما يقتضي ذلك؛ لابد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني، يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته، وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات.
الثالثة: {يُدبِّر} و{يُفصِّل} يقرآن بالياء والنون. وهما مستأنفان. أو الأول حال من ضمير {سخر} والثاني من ضمير {يدبر} أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة.
ولما قرر الشواهد العلوية، أردفها بذكر الدلائل السفلية على قدرته وحكمته. فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [3].
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} أي: بسطها وجعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض لإخراج النعم الكثيرة منها.
قال الشهاب: استدل به بعضهم على تسطيح الأرض، وأنها غير كرية بالفعل. وأن من أثبته أراد به أنه مقتضى طبعها! ورد بأنه ثبت كريتها بأدلة عقلية، لكنه لعظم جرمها يشهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح! وهكذا كل دائرة عظيمة. ولا يعلم كريتها إلا هو تعالى.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أي: جبالاً ثوابت أوتاداً لها يكثر فيها النبات وتنحفظ تحتها المياه: {وَأَنْهَاراً} متفجرة منها، وذلك لتكثير النبات والأشجار وحفظ الحيوان: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير، والبستاني والجبلي.
قال المهايمي: ليفيد كل صنف فائدة غير فائدة الآخر، فكان كل صنف نعمة بعد الإنعام بأصول الأصناف، وجعل لإتمام الإنعام بالأصناف المختلفة الطبائع؛ لئلا تجتمع فتضار متناولها فصولاً مختلفة إذ:
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي: يلبسه مكانه فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً فبطول الليل يحصل الشتاء، وبطول النهار يحصل الصيف، وبأحد الاعتدالين يحصل الخريف، وبالآخر الربيع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في مد الأرض وما بعده: {لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: لآيات باهرة لقوم يتفكرون فيستدلون بأن تكوين ما ذكر على هذا النمط البديع لابد له من قادر حكيم! أو يتفكرون فيعلمون أن تكثير النعم لجلب محبة المنعم بصرفها إلى ما خلقت من أجله. والمحبة موجبة للرجوع إليه. وفيه إشارة إلى أن من دبر ذلك لمعايشهم، أفلا ينعم عليهم بإرسال رسل وإنزال كتب ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم؟ بلى، وهو أحكم الحاكمين.
لطائف:
الأولى: قال الرازي: من الاستدلال بأحوال الجبال، أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض. وذلك أن الحجر جسم صلب. فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك، فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة. ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض. فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه، ولهذا السبب. ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال، قرن بها ذكر الأنهار، مثل ما في هذه الآية، ومثل قوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27].
الثانية: أشار الرازي إلى أن الناس، كما ابتدأوا من زوجين اثنين بالشخص، هما آدم وحواء، فكذا الأشجار والزروع خلقت أولاً من زوجين اثنين ثم كثرت، والله أعلم.
الثالثة: في قوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجو بالظلمة، بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية، أي: يستر النهار بالليل. والتركيب وإن احتمل العكس أيضاً- بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول- فإن ضوء النهار أيضاً ساتر لظلمة الليل، إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي. وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهراً- باعتبار أن ظهوره في الأرض- فإن الليل إنما هو ظلها، وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلاً. ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج، على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلها.
وقرئ {يغشّي} من التغشية- أفاده أبو السعود-.
ثم بيَّن تعالى طائفة من الآيات بقوله:

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [4].
{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} أي: بقاع متقاربات مختلفة الطبائع. فمن طيبة إلى سبخة، ومن صلبة إلى رخوة، مما يدل على قادر مدبر مريد حكيم في صنعه: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} جمع صنو، وهي نخلة أصلها واحد وفروعها شتى، وفي القاموس النخلتان، فما زاد في الأصل الواحد، كل واحدة منهما صنو، ويضم. أو عام في جميع الشجر، وإفراد الزرع لأنه مصدر في الأصل يشمل القليل والكثير: {يُسْقَى} قرئ بالتحتية والفوقية: {بِمَاءٍ وَاحِدٍ} أي: بماء المطر أو بماء النهر: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} فتتفاضل قدراً وشكلاً ورائحةً وطعماً. والأكل، قرئ بضم الهمزة والكاف وتسكينها وهو ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحب. والمجرور إما ظرف لـ: {نفضل} أو حال من بعضها، أي: نفضل بعضها مأكولاً. أو: وفيه الأكل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: الذي فصل: {لَآيَاتٍ} على وحدانيته تعالى وباهر قدرته: {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن من عقل ما تقدم جزم بأن من قدر على إبداعها وخلقها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتباينة المتجاورة، وجعلها حدائق ذات بهجة، قادر على إعادة ما أبداه، بل هو أهون في القياس.

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [5].
{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: إن تعجب من شيء فقولهم عجيب حقيق بأن يقتصر عليه التعجب؛ لأن من شاهد ما عدد من الآيات العجيبة التي تدل على قدرة يصغر عندها كل عظيم، أيقن بأن من قدر على إنشائها ولم يعي بخلقها، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب. وجوز أن يكون خطاباً لكل من يصلح له، أي: إن تعجب، يا من نظر في هذه الآيات، وعلم قدرة من هذه أفعاله، فازدد تعجباً ممن ينكر مع هذا، قدرته على البعث، وهو أهون من هذه!.
قال أبو السعود: والأنسب بقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَة} [الرعد: من الآية 6] هو الأول وعجب خبر قدم على المبتدأ للقصر، والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم: ذاك أمرٌ عجيباً.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ} أي: المنكرون لقدرته على البعث: {الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} أي: تمادوا في الكفر، فإن من أنكر قدرته تعالى فقد أنكره؛ لأن الإله لا يكون عاجزاً، وفيه تكذيب لخبره ولرسله عليهم السلام: {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} أي: السلاسل في أيمانهم مشدودة إلى أعناقهم يوم القيامة؛ لأنهم غلوا أفكارهم عن النظر في هذه الأمور، كما جعلوا خالقهم مغلول القدرة على ذلك وهو القادر الحكيم.
{وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ}.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [6].
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي: يستعجلونك بالعقوبة قبل العافية والسلامة منها، وذلك أنهم سألوا رسول الله صلوات الله عليه، أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره.
قال الشهاب: والمراد بكونها قبل الحسنة، أن سؤالها قبل سؤالها، أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها!.
{وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ} أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين. فما لهم لا يعتبرون بها ولا يخشون حلول مثلها؟ أو العقوبات التي يضرب بها المثل في الشدة. والجملة حالية أو مستأنفة. والمثلات قراءة العامة فيها فتح الميم وضم الثاء جمع مثُلة- كسمرة وسمرات- وهي العقوبة الفاضحة. سميت بها لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، كقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص، ويقال: أمثلته وأقصصته بمعنى واحد، أو هي من المثل المضروب لعظمها. وقرئ بفتح الميم وسكون المثلثة، وهي لغة أهل الحجاز، وقرئ بضم الميم وسكون المثلثة، وقرئ بفتحهما وبضمهما.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} من الناس من حمل المغفرة على المتعارف منها، وهو مغفرة الذنوب مطلقاً إلى حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد، فإن ظلمه- أعني شركه- لا يغفر.. وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة. ومنهم من ذهب إلى المغفرة مراداً بها معناها اللغوي. وهو الستر والصفح، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة، أي: إنه ذو صفح عظيم لا يعاجل بالعقوبة. مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار. كما قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة} [فاطر: من الآية 45]، وهذا التأويل أنسب بالسياق الرهيب!.
وعجب من الشهاب حيث وافق الرازي في دعواه: أن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة؛ لأنه مخالف للظاهر، ولاستعمال القرآن، وللزومه كون الكفار كلهم مغفوراً لهم لأجل تأخير عقابهم إلى الآخرة. ولا يخفاك صحة تسميته مغفرة؛ لأنه في اللغة الستر، ومن أفراده الستر بالإمهال؟ ودعوى أنه مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن تحكم بحت على أسلوب القرآن، بإرجاعه إلى ما أصّلوه. مع أن التحاكم إليه في الفروع والأصول، وهو الحجة في اللغة والاستعمال! ودعوى فساد اللزوم وتهويل خطبه فارغة؛ لأنه لا محذور في ذلك، لاسيما وهو المناسب لاستعجالهم العذاب المذكور قبل، فالتلازم صحيح! ثم من المقرر أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، فهذه الآية في معناها كآية: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ} الخ. فما ذكر من التأويل مؤيد بهذه الآية، فتفطن ولا تكن أسير التقليد..!
ولما بين تعالى سعة حلمه قرنه ببيان قوة عقابه؛ ليعتدل الرجاء والخوف، فقال سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: لمن شاء، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: من الآية 167]، وقال سبحانه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49- 50].